Sunday, January 22, 2006

ثلاث سنوات - تشيخوف يعرّي البرجوازية الروسية




روايات خالدة..تشيخوف يعرّي البرجوازية الروسية
ثلاث سنوات
تأليف :انطون تشيخوف



تتوازى رواية «ثلاث سنوات» للأديب الروسي انطون تشيخوف مع رواية «أسرة بادنبروك» للكاتب الالماني توماس مان، وان كانت قد كتبت قبلها بستة عشر عاما، ففي رواية «ثلاث سنوات» التي لا تزيد على مئة وثلاثين صفحة، قدم لنا تشيخوف بأسلوبه المركز الاحساس بحتمية الاختلاف بين الاجيال المتعاقبة، وهو نفس الاحساس الذي عالجه توماس مان.




تتركز قصة تشيخوف حول زواج «لابتيف» الابن الاصغر لاحد التجار الاثرياء بابنة طبيب باحدى المدن الصغيرة. والصورة التي يرسمها تشيخوف لثلاث سنوات من زواجهما تتطلع الى الامام والى الوراء، فترينا من اين جاءا وماذا سيصبحان في الايام المقبلة، هما ومن يحيط بهما في بيئة موسكو، فضلا عن بيئة المدينة الاقليمية.


ولد انطون بافلوفيتش تشيخوف في 17 يناير سنة 1860، وكان جده من رقيق الارض، ووصفه تشيخوف بقوله: «كان جدي يتلقى ضربات سياط السادة من النبلاء وكان اصغر موظف في الضيعة يستطيع تحطيم رأسه ومع ذلك كان يقسو في جلد والدنا، وكان والدنا، يقسو في جلدنا». أمضى تشيخوف طفولة تعسة،


ولم يكد يقترب من سن الشباب حتى وجد نفسه مسئولا عن اعالة الاسرة كلها، فضلا عن دفع مصاريف دراسته للطب، فأرهق نفسه في اعطاء الدروس الخصوصية والتأليف. واتاح له عمله بالمستشفيات فرصة الاتصال المباشر بالفلاحين مما وضح اثره في كتاباته، وفي اهتمامه باصلاح احوالهم التعسة.


قام عام 1890 برحلة شاقة الى جزيرة «سخالين» حيث درس احوال المسجونين على الطبيعة وكتب عنهم بحثا ضخما احدث ضجة كبيرة.


كتب اربع مسرحيات وعدة روايات ولكنه يعتبر رائد مدرسة اصيلة في فن القصة القصيرة، اذ وجهها الى تصوير موقف دافيء من الحياة دون اهتمام كبير بالحبكة على العكس من مدرسة «موباسان» الفرنسي. وتوفى في 15 يونيو سنة 1904 وهو في الرابعة والاربعين من عمره.


ان ما يهاجمه تشيخوف في هذه الرواية هو تلك التقاليد القبلية العتيقة التي تتيح لرب الاسرة ان يمارس سلطانه بلا حدود وبأسلوب خال من الانسانية، واذا كان رب الاسرة هنا في بيئة تجارية، فقد سبق لتشيخوف ان قدم في قصص اخرى نماذج لرب الاسرة المتجمعة في البيئة الريفية، وهو في الحالين مثل نموذجي صارخ على ان السلطة غير المحدودة تنتهي دائما الى الفساد.


وأبناء الجيل الحاضر من اسرة لابتيف لم يتصرفوا بسبب ازدياد انتشار الاحساس بالحرية في العالم بشكل عام، كأسلافهم، فهم يعلمون ان ملاك الارض كانوا يجلدون جدهم، وأن جده بدوره كان يجلد اباهم، ولكنهم هم انفسهم لم يستطيعوا ان يحتملوا وقع السياط بسعادة وهم متأكدون ان دورهم آت ليجلدوا ابناءهم وأتباعهم، بل سمم الخوف حياتهم.


لقد حملتهم امهم وهي خائفة. كانت في السابعة عشرة حين زوجوها رجلا في الخامسة والاربعين، فكانت ترتعد لكل التفاتة من رأسه. وكان السوط هو معلم هؤلاء الابناء، وملأهم السأم من صلوات الاسر والكنيسة، وبدأوا يعملون في المتجر منذ سن الثامنة، وحتى حين الحقوا بالمدارس الثانوية ظلو ا يعملون فيه نصف اليوم.


حينما كان لابتيف لا يزال طالبا في الجامعة شجعه صديق له على القيام بمحاولة للاستقلال، فاستأجر مسكنا خاصا به، وقلل نصيبه في العمل بالمتجر الى اقل حد ممكن، وان ظل يتقاضى منه ألفين وخمسمئة روبل في الشهر.


وظل حتى بلغ الرابعة والثلاثين من عمره يعيش في موسكو حياة اعزب مرح مع اصدقاء اذكياء وعشيقة، وسط بيئة ذات ميول فنية واهتمامات موسيقية ووجهة نظر فردية شأن طبقة المثقفين رغم ان دخله الكبير كان يسمح له ان يكون كريما في عطاياه.


لم يكن له دين ولا هدف معين في الحياة، يعيش متنقلا من نزوة الى اخرى، وقد سيطر عليه خوف غامض غريب. وها هو ذا يحب الآن بعنف، ولكن علاقته بـ «جوليا» كانت مسممة منذ البداية بفكرة ترجع الى حد كبير الى انعدام ثقته بنفسه، وخلاصتها انها لم تقبل الزواج منه الا طمعا في ماله، مع ان حقيقة الامر انها تزوجته لتتخلص من ابيها وتعيش في موسكو.


وحينما بدأت تحبه فعلا بعد مرور ثلاث سنوات، كان حبه لها قد مات، وهناك اشارة الى ان مثلث الكبت المألوف في طريقه الى التكوين، بالاشتراك مع اقرب اصدقائه ـ «يارتسيف» ـ الذي يحب جوليا.


وفي هذه الاثناء كان لابتيف قد اصبح رئيس المؤسسة التجارية، ووجد نفسه سجين الثروة التي يمكنها ان تهبه الحرية. «كان مقتنعا بأن الملايين والعمل، اللذين لا يكن لهما اقل حب،


سوف يفسدان حياته، ويصنعان منه عبدا مرة اخرى، والى الابد. وأخذ يتصور كيف سيألف مكانته بالتدريج، وكيف سيتقمص شيئا فشيئا دور مدير المؤسسة، ويجد كل ما فيه من حساسية يتبلد، وتتقدم به السن، ثم في النهاية يموت حقيرا ميتة النكرة الوضيعة المريرة، بعد ان ظل سنوات عذابا لكل من حوله».


كان لابتيف محباً للحياة الاستقلالية التي بحث عنها في مدينة بعيدة عن موسكو فتعرف الى ابنة طبيب تدعى جوليا سيرجيفنا واغرم بها ولكنها لم تكن تحبه لسبب ما.. فاضطر الى التقرب منها بشكل عفوي كأن ينتظرها امام الكنيسة ومن ثم يصطحبها الى المنزل ليجلس مع والدتها المريضة والتي سرعان ما تموت بعد زواج ابنتها من لابتيف ويباع منزلهم


ويهاجر الاخ بينما الطبيب والدها يعيش هو الاخر بطريقة خاصة لا ترضي ابنته فتقرر الزواج من لابتيف الابن الثري لاسرة تجارية تمتلك متجرا في موسكو يديره والده المتعجرف الذي يعامل موظفيه بطريقة فيها عبودية تبدأ من الجلد ولا تنتهي مع طبق واحد يقدمه لهم ويفرض عليهم طريقة صلاتهم وحياتهم الخاصة.


مع مرور بعض الوقت يفقد والد لابتيف بصره وتخف سيطرته على المتجر بينما ينخرط شقيق لابتيف في منظومة فكرية تودي به الى الجنون


ومن ثم الموت فيجد الشاب نفسه مضطرا الى ادارة ملايين الروبلات عبر تجارة لا يفقه منها شيئا لان والده كان ممسكا بكل اموال واحوال المتجر وسجلاته يأتمن عليها بعض اصدقائه من الموظفين المخلصين والذين يستدعيهم لابتيق بعد عمى والده وموت شقيقه ويهددهم باغلاق المتجر اذا لم يطلعوه على اسرار العمل فيرضخون لمطلبه ليبدأ حياة اخرى غير تلك التي عاشها من قبل.


وخلال مرض شقيق زوجها ودخوله المصحة وفقدان والد زوجها بصره تبدأ عملية التحول في حياة جوليا حيث تهتم بالعجوز الاعمى وتقرر ان تقترب من موظفي المتجر للوقوف على احوالهم ومن ثم بدأت بوادر الحب تظهر لزوجها لابتيف ولكن بعد مرور ثلاث سنوات الا ان لابتيف كان قد فقد اي مشاعر عاطفية تجاه زوجته وكأنها تبادلا الادوار فأحبته هي وتوقف هو عن حبها.


لقد اراد تشيخوف عبر هذا الرصد لحياة هذه الاسرة خلال ثلاث سنوات ان يثبت موقفه من البورجوازية التي تحب الهدهدة والمبنية على فلسفة: لتستغرق في النوم برفقة، ولتكسب مالا، ولتحب الرياضة ولتصل مع اصدقائك وسيكون كل شيء على مايرام في هذا العالم والعالم الآخر.


وحيث ان البرجوازية كانت شديدة الهيام بما يسمى بالنماذج الايجابية والروايات ذات النهايات السعيدة فان تشيخوف قدم نمطا انتقاديا لاسرة بورجوازية سرعان ما تفككت وانهارت اخلاقيا واجتماعيا وكان خير مثال على ذلك عمى الاب المتغطرس الذي لم يكن يغادر متجره ابدا الا لشيء جلل وذلك لانه يحب اصدار الاوامر والمكان الوحيد المتاح له فيه ممارسة هذه الغطرسة هو متجره الذي لم ينفعه في اعادة بصره وموت ابنه واستلام لابتيف دفة الامور وهو لا يملك اي دراية تجارية لذلك هدد باغلاق المتجر او الانصياع لاوامره.


وهكذا انصاع الموظفون له وقدموا له الدفاتر والحسابات، وكأنها عملية تعاقب اجيال الغطرسة فقد هددهم بلقمة عيشهم وتلك كانت على الدوام سلاح الاغنياء، ضد الفقراء.


رباب محمد

0 Comments:

Post a Comment

<< Home